الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
وهو من شواهد س: البسيط ويلمّها في هواء الجوّ طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب على أنّ قوله: مطلوب ، عطف بيان لاسم لا المضاف: فإن الكاف اسمٌ مضاف لاسم الإشارة في محل نصب بلا على أنه اسمها؛ وقد تبعه البيان بالرفع باعتبار أنّ لا مع اسمها في محلّ رفع على الابتداء والخبر محذوف، أي: موجود ونحوه. ويجوز أن يكون مطلوب صفة اسم لا، ولا يضرّ إضافة الكاف إلى اسم الإشارة، فإنها بمعنى مثل، وهي لا تتعرّف بالإضافة إلى المعرفة. هذا محصّل ما قاله الشارح المحقق. وفيه أنّهم قالوا: إنّ البيان يكون في الجوامد، والصفة تكون في المشتقّات، فكيف لا يكون فرق بين البيان والوصف. وقد أورد سيبويه هذا البيت من باب الوصف لا غير. قال الأعلم: الشاهد فيه رفع مطلوب حملاً على موضع الكاف، لأنّها في تأويل مثل وموضعها موضع رفع، وهو بمنزلة لا كزيد رجل. ولو نصب حملاً على اللفظ وعلى التمييز لجاز. انتهى. ونقل ابن السراج في الأصول عن سيبويه أنّ اسم لا في مثل هذا محذوف والكاف حرف، وهذا كلامه: وتقول لا كزيد رجلٌ، لأنّ الآخر هو الأوّل ولأنّ زيداً رجل، وصار لا كزيد كأنّك قلت: لا أحد كزيد ثم قلت رجل، كما تقول لا مال له قليل ولا كثير على الموضع. وقال امرؤ القيس: ويلمّها في هواء الجوّ طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب كأنه قال: ولا شيء كهذا، ورفع على الموضع، وإن شئت نصبت على التفسير كأنه قال: لا احد كزيد رجلاً. قال سيبويه: ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولهم: لا عليك؛ وإنما يريدون لا بأس عليك ولا شيء عليك، ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه. انتهى. واعلم أنّه يجوز أن يكون مطلوب مبتدأ مؤخراً واسمٍ لا بمعنى ليس والظرف قبله الخبر. قال النحاس في شرح أبيات الكتاب ناقلاً عن أبي الحسن الأخفش: هذا هو الجيد. وقوله: ويلمّها . الخ، هذا في صورة الدعاء على الشيء، والمراد به التعجب، والضمير المؤنث مفسّر بالتمييز، أعني طالبةً المراد بها العقاب، وهو تمييز عن النسبة الحاصلة بالإضافة، وقد أوضحها الشارح المحقق في باب التمييز. ومعنى الكلام: ما أشدّ طيران هذه العقاب في هواء الجوّ. وويل إذا أضيفت فالوجه النصب، كقولك ويل زيد، لكنها هنا مضمومة اللام ومكسورة والأصل ويلٌ لأمّها. قد تقدم شرح جميع هذا مفصّلاً في الشاهد الحادي عشر والثاني عشر بعد المائتين. وهذه رواية النحاة، وأما الثابت في ديوان امرئ القيس فهوّ: لا كالتي في هواء الجوّ طالبة البيت والهواء: الشيء الخالي، والجوّ: ما بين السماء والأرض، فهو من قبيلٍ إضافة الصفة إلأى موصوفها. وأراد بالمطلوب الذئب، فإنه وصف عقاباً تبعت ذئباً لتصيده، فتعجّب منها في شدّة طلبها، وتعجّب من الذئب أيضاً في سرعته وشدّة هربه منها. وهذا البيت من قصيدة لامرئ القيس وهي: البسيط الخير ما طلعت شمسٌ وما غربت *** مطلبٌ بنواصي الخيل معصوب قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني *** جرداء معروقة اللّحيين سرحوب كأنّها حين فاض الماء واختلفت *** صقعاء لاح لها بالسّرحة الذّيب فأبصرت شخصه من دون مرقبةٍ *** ودون موقعها منه شناخيب فأقبلت نحوه في الرّيح كاسرةً *** يحثّها من هواء الجوّ تصويب صبّت عليه ولم تنصبّ من أممٍ *** إن الشّقاء على الأشفين مصبوب كالدّلو بتّت عراها وهي مثقلةً *** إذ خانها وذمٌ منها وتكريب لا كالتي في هواء الجوّ طالبةً *** ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب كالبرق والرّيح مرٌّ منهما عجبٌ *** ما في اجتهادٍ عن الإسراح تغبيب فأدركته فنالته مخالبه *** فانسلّ من تحتها والدّفّ مثقوب وقوله: الخير ما طلعت الخ ، الخير مبتد ومطّلب خبره، ووزنه مفتعل من الطلب فأبدل وأدغم: وما مصدرية ظرفية. ومعصوب خبر بعد خبر بمعنى مشدود، والباء متعلقة بما قبله وبما بعدها ويضمر لأحدهما، فهو من التجاذب كقوله تعالى: {تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم . وهذا يشبه الحديث وهو: الخيل معقودٌ بنواصيها الخير إلى يوم القيامة . وقوله: قد اشهد الغارة الخ، وقد هنا للتكثير، وأشهد: أحضر. والشّعواء ، بالعين المهملة: المتفرقة الفاشية. والجرداء: الفرس القصيرة الشعر. ومعروفة اللحيين ، أي: قليلة لحم اللّحيين بفتح اللام، وهما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان. والسرحوب ، بضم المهملتين: الطويلة الظهر السريعة. وهذا الوصفان مدحٌ في الخيل. وقوله: كأنها حين فاض ، الضمير للفرس، أي: كأنها حين عرقت فأملأ عرقها. واختلفت، أي: استقت ماءً يريد كأنّها استقت ماءً من شدّة عرقها، ومعناه تردّدت هنا وهنا، فإنّ الاختلاف يأتي بمعنى التردّد. وصقعاء خبر كأنّها، وهي العقاب بيضاء الرأس، قال في الصحاح: والأصقع من الخيل والطير وغيرهما: الذي في وسط رأسه بياض، يقال: عقابٌ صقعاء، والاسم الصّقعة انتهى. ولاح: ظهر. والسّرحة: شجرة. وقيل موضع، يقول: كانت العقاب واقفه تبصر صيداً، فلاح لها الذئب. وقوله: فأبصرت شخصه الخ ، المرقبة بالفتح: الموضع العالي الذي يرقب فيه العدوّ. وموقع العقاب الموضع الذي هي واقفة عليه. والشّناخيب: رؤوس الجبال، أي: بين موقعها من الذئب وبينه رؤوس جبال عالية. وقوله: فأقبلت نحوه الخ ، أي: نحو الذئب. وكسر الطائر: إذا صفّ جناحيه. والتصويب: الانصباب. وقوله: صبّت عليه الخ ، الأمم ، بفتحتين: القرب، يقال: أخذت ذلك من أمم. والأشقين: جمع أشقى. وهذا المصراع من إرسال المثل. وقوله: كالدلو بتّت عراها الخ ، شبّه هويّ العقاب بسرعة هويّ الدّلو الملأى إذا انقطع حبلها. وبتّت قطعت، من البتّ. والعر: جمع عروة. والوذم ، بفتح الواو والذال المعجمة: السيور التي بين آذان الدلو وأطراف العراقيّ، وهي العيدان المصلّبة تشدّ من أسفل الدّلو إلى قدر ذراع وذراعين من حبل الدلو مما يلي الدّلو، فإن انقطع حبلها تعلّقت بالوذم. والتكّريب: شدّ الكرب، بفتحتين، وهو الحبل الذي يشدّ في وسط العراقيّ، ثمّ يثنّى ثم يثلّث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير. وقوله: لا كالتي في هواء الجوّ طالبة الخ قال ابن رشيق في العمدة: هذا البيت عند دعبل أشعر بيت قالته العرب، وبه قدّمه على الشعراء. وقوله: كالبرق والريح الخ ، يقول: إنّ العقاب والذئب مرّهما وسرعتهما كالبرق والريح. والتغبيب: الفتور والتقصير، يقال: غبّب فلان في الحاجة، إذا لم يبالغ فيها، وهو من الغبّ بالغين المعجمة بعدها موحدة. وقوله: فأدركته فنالته الخ ، وانسلّ ، أي: انفلت، والدّفّ ، بفتح الدال وتشديد الفاء: الجنب، يعني أفلت الذئب من العقاب ونجا، لكن ثقبت جنبه. وترجمة امرئ القيس قد تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين. وأنشد بعده: وهو لا كالعشيّة زائراً ومزورا على أنّ زائراً قيل منصوب على تقدير فعل، أي: لا أرى كعشية اليوم زائراً. وإنما لم يجعل الكاف اسماً ل لا مضافاً إلى العشيّة ويكون زائراً عطف بيان للكاف تبعه على اللفظ وصفةً على طرز البيت الذي قبله، لأنّ الزّائر غير العشية، فلما كان الثاني غير الأوّل لعدم صحّة الحمل جعلت لا نافية للفعل المقدّر دون كونها نافية للجنس. وصاحب هذا القيل هو سيبويه، وهذا نصّه: وأما قول جرير: لا كالعشيّة زائراً ومزورا فلا يكون إلاّ نصباً، من قبل أنّ العشيّة ليست بالزائر، وإنما أراد لا أرى كالعشيّة زائراً، كما تقول ما رأيت كاليوم رجلاً، فكاليوم مثل قولك في اليوم لأنّ الكاف ليست باسم. وفيه معنى التعجّب كما قال تالله رجلاً، وسبحان الله رجلاً، إنّما أراد تالله ما رأيت رجلاً وسبحان الله ما رأيت رجلاً؛ لكنه يترك إظهار الفعل استغناء، لأنّ المخاطب يعلم أنّ هذا الموضع إنّما يضمر فيه هذا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه انتهى. قال الأعلم: اصله لا أرى زائراً ومزوراً كزائر العشيّة ومزورها، فحذف اختصاراً للعلم، كما قالوا: ما رأيت كاليوم رجلاً، أي: كرجل أراه اليوم. ولا تجيزن في هذا رفع الزائر، لأنّه غير العشيّة، وليس بمنزلة لا كزيد رجل، لأنّ زيداً من الرجال انتهى. وقد نقل أبو العباس ثعلب في أماليه قاعدةً لحذف الفعل مع الظرف الزمانيّ، قال: حكى الكسائيّ نزلنا المنزل الذي البارحة، والمنزل الذي آنفا، والمنزل الذي أمس. فيقولون في كلّ وقت شاهدوه من قرب، ويحذفون الفعل وحده كأنّهم يقولون: نزلنا المنزل الذي نزلنا أمس، والذي نزلناه اليوم؛ اكتفوا بالوقت من الفعل، إذ كان الوقت يدّل على الفعل وهو قريب. ولا يقولون الذي يوم الخميس، ولا الذي يوم الجمعة. وكذا يقولون: لا كاليوم رجلاً. ولا كالعشيّة رجلاً، ولا كالسّاعة رجلاً، فيحذفون مع الأوقات التي هم فيها. وأباه الفرّاء مع العلم. وهو جائز وأنشد: لا كالعشية زائراً ومزورا وكلّ ما كان فيه الوقت فجائز أن يكون بحذف الفعل معه، لأنّ الوقت القريب يدل على فعل لقربه. انتهى. وقد قدّر أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة فعلين، قال: نصب زائراً لأنّ الفعل مقدّر، فكأن تقديره: لا أرى زائراً ومزوراً له كرجل أراه العشيّة. فنصبه على الفعل وحذف ذلك لما في الكلام من الدّلالة عليه. ويجوز الرفع هاهنا، وهو قبيح لأنّ الزّائر ليس هو العشية، ويجوز رفعه كأنّك أردت كصاحب العشيّة، فحذفت صاحباً وجعلت العشيّة إذا رفعتهما دلالة على ما حذفت. هذا وقد اعترض عليهم الشارح المحقّق في إخراجهم لا هذه عن الباب مع قولهم إنّ الأصل كزائر العشيّة بتقدير المضاف، قال: مع تقديرهم هذا صار الآخر هو الأصل الأوّل، كما في قولك: لا كالعشيّة عشيّةٌ، وعشيّةً ، فيجوز أن يكون زائراً تابعاً على اللفظ. وهذا حقّ لا ينبغي العدول عنه وأل في العشيّة للعهد الحضوريّ، كقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم والعشيّة قال ابن الأنباريّ: مؤنّثة، وربّما دكّرتها العرب على معنى العشيّ. وقال بعضهم: العشيّة واحدة جمعا عشيّ؛ والعشيّ قيل: ما بين الزوال إلى الغروب، ومنه يقال للظهر والعصر صلاتا العشيّ؛ وقيل هو آخر النهار؛ وقيل من الزّوال إلى الصبّاح؛ وقيل العشيّ والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة. كذا في المصباح وأراد بالزّائر نفسه، وبالمزور من يهواه. وهذا المصراع عجز، وصدره: يا صاحبيّ دنا الصبّاح فسيرا والبيت من قصيدة لجرير بن الخطفى يهجو بها الأخطل النّصرانيّ مطلعه: الكامل صرم الخليط تباينا وبكور *** وحسبت بينهم عليك يسيرا وفيها بيتان من شواهد الكشّاف أحدهم: في سورة مريم وهو: إنّي إذا مضرٌ عليّ تحدّبت *** لاقيت مطلع الجبال وعورا على أنّ اطّلع في قوله تعالى: {اطّلع الغيب بمعنى ارتقى، من قولهم اطّلع الجبل. ومطّلع الجبل مصعده ومرتقاه. ووعور: جمع وعر وهو المكان الخشن الصعب، ونصبه إما على أنه مفعول لاقيت ومطّلع الجبال ظرف، وإما حال من الجبال على أنّ المطّلع مصدر، وحال من المطّلع بتقدير تعدّده إضافته إلى متعدّد. وروي وعورا بفتح الواو: بمعنى أنه من الفخر بمكان لا ينال. والثاني: في الملائكة وهو: مشق الهواجر في القلاص مع السّرى *** حتّى ذهبن كلاكلاً وصدورا أورده عند قوله تعالى: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . والرواية المعروفة: مشق الهواجر لحمهن من السّرى *** حتى ذهبن الخ وكذا أنشده سيبويه، قال الأعلم: الشاهد في نصب كلاكلاً بقوله ذهبن نصب التمييز، لا نصب التشبيه بالظرف. وعبر سيبويه عما أراد من نصب هذا ونحوه على التّمييز، بذكره الحال، لما بين التّمييز والحال من المناسبة بوقوعهما نكرتين بعد تمام الكلام، وتبيينهما للشيء المقصود من النوع، تقول ذهب زيد ظهراً وصدراً، وتغيّر وجهاً وجسماً؛ تريد ذهب ظهره وصدره، وتغيّر وجهه وجسمه. فعبّر سيبويه عن التّمييز بالحال. وعلى هذا يجرى سائر الأبيات انتهى. والمشتق: الترقيق والإهزال. والهواجر: جمع هاجرة، وهي نصف النهار وقت اشتداد الحرّ. والسّرى: سير الليل. ومن في الرواية الثانية بمعنى مع. والكلاكل: جمع كلكل كجعفر، وهو الصّدر، وعطف عليه الصدر للتفسير، وأنه أراد بالكلكل أعلى الصدر. وصف رواحل أنضاها دؤوب السير في الهواجر والليل حتّى ذهب لحوم صدرها. وترجمة جرير قد تقدّمت في الشاهد الرابع في أوّل الكتاب. وأنشد بعده: يا تيم تيم عديٍّ وهو قطعة من بيت هو: البسيط يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم *** لا يلقينّكم في سوءة عمر وقد تقدّم شرحه مفصّلاً في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة. وأنشد بعده: وهو الطويل وقد مات شمّاخ ومات مزرّدٌ *** وأيّ كريمٍ لا أباك مخلّد على أن إضافة أبا إلى الضمير بدون اللام شاذّة لا يقاس عليها. قال ابن السرّاج في الأصول: والشاعر قد يضطّرّ فيحذف اللام ويضيف، قال الشاعر: الوافر أبا لموت الذي لا بدّ أنّي *** ملاقٍ لا أباك تخوّفيني وقال الآخر: وقد مات شمّاخٌ ومات مزرّدٌ *** وأيّ كريمٍ لا أباك مخلّد وكذا أنشدهما المبرد في الكامل . قال أبو عليّ في التذكرة قال أبو عثمان: لم يجيء في باب النفي مثل لا أباك مضافاً بغير لام إلاّ هذا وحده. وأنشد البيتين. ولا يخفى أن هذا البيت من قصيدةٍ عينيّة لمسكين الدّارميّ، وليس فيها الضرورة. والمصراع هكذا: وأيّ كريم لا أبا لك يمنع وهي قصيدة أورد فيها شعراء كلّ منهم نسب قبره إلى بلده، ومسقط رأسه، وذكر حال الشعراء المتقدّمين، وأنّهم ذهبوا ولم يبق منهم أحدٌ، يصغّر أمر الدنيا ويحقّره. وهذه أبيات منه: الطويل ولست بأحيا من رجالٍ رأيتهم *** لكلّ امرئ يوماً حمامٌ ومصرع دعا ضابئاً داعي المنايا فجاءه *** ولما دعوا باسم ابن دارة أسمعوا وحصنٌ بصحراء الثّويّة بيته *** ألا إنّما الدّنيا متاعٌ يمتّع وأوس بن مغراء القريعيّ قد ثوى *** له فوق أبياتالرّياحيّ مضجع ونابغة الجعديّ بالرّمل بيته *** عليه صفيحٌ من رخامٍ مرصّع وما رجعت من حميريّ عصابةٌ *** إلى ابن وثيلٍ نفسه حين تنزع أرى ابن جعيلٍ بالجزيرة بيته *** وقد ترك الدّنيا وما كان يجمع بنجران أوصال النّجاشيّ أصبحت *** تلوذ به طيرٌ عكوفٌ ووقّع وقد مات شمّاخٌ ومات مرزّدٌ *** وأيّ عزيز لا أبا لك يمنع أولئك قومٌ قد مضوا لسبيلهم *** كما مات لقمان بن عادٍ وتبّع قوله: ونابغة الجعديّ الخ هذا البيت من شواهد سيبويه، وأراد بالرمل رمل بني جعدة، وهي رمالٌ وراء الفلج من طريق البصرة إلى مكّة. وابن وثيل هو سحيم ابن وثيل بن حميريّ. وكعب بن جعيل دفن بجزيرة ابن عمر لأنّها بلاد بني تغلب، ودفن النّجاشيّ بنجران لأنّه من اليمن بلاد بني الحارث بن كعب. وقوله: وفد مات شمّاخ ومات مزرّد هما أخوان لأب وأمّ، وصحابيان، وشاعران. وقد تقدّمت ترجمة الشمّاخ في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة. واسمه معقل بن ضرار، والمزرّد اسمه يزيد بن ضرار، وإنّما سمّي مزرّداً بقوله: الطويل . فقلت تزرّدها عبيد فإنّني *** لدرد الموالي في السّنين مزرّدٌ ولهما أخ آخر شقيقهما وهو جزء بن ضرار، بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. ومات الشمّاخ وجزءٌ متهاجرين. وسبب ذلك على ما روى الكلبيّ أنّ الشمّاخ كان يهوى امرأةً من قومه يقال لها كلبة بنت جوّال، وكان يتحدّث إليها ويقول فيها الشعر، فخطبها فأجابته وهمّت أن تتزوجه، ثم خرج إلى سفرٍ له فتزوّجها أخوه جزء، فآلى الشمّاخ أن لا يكلمه أبداً، وهجاه بقصيدته التي يقول فيه: الطويل لنا صاحبٌ قد خان من أجل نظرةٍ *** سقيم فؤاد حبّ كلبة شاغلة فماتا متهاجرين. وقوله: لا أبا لك ، جملة اعتراضيّة بين أيّ عزيز وهو موصوف، وبين يمنع وهو صفة لأيّ. وكذلك يخلّد ومخلّد على تلك الرواية. قال المبرّد في الكامل: لا أبا لك هي كلمة فيها جفاء وغلظة، والعرب تستعملها عند الحث على أخذ الحقّ والإغراء، وربّما استعملتها الجفاة من الأعراب عند المسألة والطلب، فيقول القائل للأمير والخليفة: انظر في أمر رعيّتك لا أبا لك. وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة مجدبة يقول: الرجز ربّ العباد ما لنا وما لك *** قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبا لكا فأخرجه سليمان أحسن مخرج. فقال: أشهد أنّه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة، وأشهد أن الخلق جميعاً عباده وهو الأحد الصمد. وقال رجلٌ من بني عامر بن صعصعة، أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه: الكامل أبني عقيلٍ لا أبا لأبيكم *** أبيّ وأيّ بني كلابٍ أكرم . وقال ابن هشام في شرح بانت سعاد عند قوله: البسيط فقلت خلّوا سبيلي لا أبا لكم *** فكلّ ما قدّر الرّحمن مفعول اعلم أنّ قولهم: لا أبا له، كلامٌ يستعمل كناية عن المدح والذمّ، ووجه الأوّل أن يراد نفي النّظير الممدوح بنفي أبيه، ووجه الثاني أن يراد أنّه مجهول النسب. والمعنيان محتملان هنا؛ أمّا الثاني فواضح لأنّهم لما لم يغنوا عنه شيئاً أمرهم بتخلية سبيله ذامّاً لهم؛ وأمّا الأوّل فعلى وجه الاستهزاء انتهى. وزاد عليه شارحها البغداديّ قال: تقول العرب لا أبا لك ولا أب لك، يستعمل في التفجّع والتعجّب، ويقال في المدح والذم؛ وربّما قالوا لا أباك وهو نادر. وأمّا لا أمّ لك فلا يقال إلاّ في الذّم وحده، دلّ على ذلك استقراء كلام العرب. وقال ابن جنّي في الخصائص: إن قلت إنّ الألف في لا أبا لك تؤذن بالإضافة والتعريف، واللام تؤذن بالفضل والتنكير، فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين ضدّين وهما التعريف والتنكير. وهذا كما ترى متدافعان، قلت: الفرق واضح؛ فإنّه كلام جرى مجرى المثل، فإنّك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء عليه، أي: أنت عندي مّمن يستحقّ أن يدعى عليه بفقد أبيه. كذا فسّره أبو عليّ، وكذلك هو لمتأمّله؛ ألا ترى أنه قد أنشد توكيداً لما رآه من هذا المعنى فيه قوله: الطويل وتترك أخرى فردةً لا أخا لها ولم يقل لا أخت لها؛ ولكن لّما جرى هذا الكلام على أفواههم لا أبا لك ولا أخا لك، قيل مع المؤنّث على حدّ ما يكون عليه مع المذكّر، فجرى نحواً من قولهم لكلّ أحدٍ: من ذكر وأنثى، واثنين واثنتين وجماعة: الصّيف ضيّعت اللبن - على الأنيث، لأنّه كذا جرى أوّله. وأما قوله: أبا لموت الذي لا بدّ أنّي *** ملاقٍ لا أباك تخوّفيني فقد قال شارح أبي عليّ الفارسيّ: هو لأبي حيّة النّميريّ قاله أبو عمرو، قال: جلبه أبو عليّ شاهداً على حذف هذه اللام ضرورة، فثبوت الألف في أبا دليل الإضافة والتعريف، ووجود اللام دليل الفصل والتنكير. حذف لام الجرّ وهو يريدها؛ ولولا أنّها في حكم الثّابت في اللفظ لما عملت لا، لأنّها لا تعمل إلاّ في نكرة. فأمّا دلالة الألف فيه وحذف النون من نحو لا يدي بها لك على إرادة الإضافة، فلأنّ وجود العمل مانعٌ فيها من اللفظ، فضعف اقتضاء المعنى مع وجود المانع اللفظيّ. فإنّ هذا مثلٌ لم يقصد به نفي الأب وإنّما قصد به الذمّ. وكذلك لا يدي لك، إنّما المراد لا طاقة لك بها. وهو قياس من النّحويين على قولهم لا أبا لك. وفي الكتاب: لا أبا فاعلم لك؛ وفيه دليل على أنّه ليس بمضاف. ويجوز أن تكون الألف لام الكلمة كما قال: الرجز إنّ أباها وأبا أباها فأمّا قوله تخوّفيني، فإنّه أراد تخوفينني فحذف إحدى النونين: فقيل حذف الأولى كما حذف الإعراب، في قول امرئ القيس: السريع فاليوم أشرب غير مستحقبٍ وقال المبّرد حذف الثانية، وهو أولى لأنّها إنما زيدت مع الياء لتقي الفعل من الكسرة، والأولى علامة الرفع انتهى كلامه. وإذا كان الأمر كذلك علم أنّ قولهم لا أبا لك إنّما فيه تعادي ظاهره، واجتماع صورتي الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظاً لا معنى. ونحن إنّما عقدنا فساد الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً. هذا ما لا يدّعيه مدّع. ويؤكد عندك خروجه مخرج المثل كثرته في الشعر، وأنّه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب. وهو دعاء في المعنى لا محالة، وإن كان في اللفظ خبراً؛ ولو كان دعاءً مصرّحاً وأمراً مغنيّاً لما جاز أن يقال لمن لا أب له؛ لأنّه إذا كان لا أب له لم يجز أن يدعى عليه بما هو فيه لا محالة؛ فيعلم أنّه لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه، وإنّه لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه، وإنّما هي خارجة مخرج المثل، قال عنترة: الكامل فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي *** أنّي امرؤٌ سأموت إن لم أقتل وقال: الكامل ألق الصّحيفة لا أبا لك إنّه *** يخشى عليك من الحباء النّقرس وقال: أبا لموت الذي لا بدّ أنّي *** ملاقٍ لا أباك تخوّفيني أراد: لا أبا لك فحذف اللام. وقال جرير: يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم وهذا أقوى دليل على كونه مثلاً لا حقيقة. ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون لتيم كلّها أبٌ واحد، ولكن معناه كلّكم أهل للدّعاء عليه والإغلاظ له. وقال الحطيئة: الطويل أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم وسدّوا المكان الذي سدوا فإن قلت: فقد أثبت الحظيئة في هذا البيت ما نفيته في البيت قبله، فجعل للجماعة أباً واحداً، وأنت قلت إنّه لا يكون لجماعة تيم أبٌ واحد. قيل: الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنّه مثلٌ لا يريد حقيقة الأب، وإنّما غرضه الدّعاء مرسلاً، ففحّش بذكر الأب. والآخر: يجوز أن يريد بأبيكم الجمع، أي: لا أبا لآبائكم، يريد الدّعاء على آبائهم من حيث ذكرها، فجاء به جمعاً مصحّحاً على قولك أب وأبون، قال: المتقارب فلمّا تبيّنّ أصواتن *** بكين وفدّيننا بالأبينا انتهى كلامه باختصار. وأنشد بعده: يا بؤس للجهل ضرّاراً لأقوام هذا عجز وصدره: قالت بنو عامرٍ خالوا بني أسدٍ وقد تقدّم شرحه مفصلاً في الشاهد الرابع بعد المائة. وأنشد بعده: وهو وهو من شواهد س: البسيط كأن أصوات من إيغالهنّ بن *** أواخر الميس إنقاض الفراريج على أنّه قد فصل لضرورة الشعر، بالظرف بين المتضايفين. والأصل: كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهنّ بنا إنقاض الفراريج. في الأصول لبن السرّاج: وقبيح أن تفصل بين الجارّ والمجرور فتقول لا أخا هذين اليومين لك. قال سيبويه: هذا يجوز في ضرورة الشعر لأنّ الشاعر إذا اضطّر فصل بين المضاف إليه. وأنشد هذا البيت. ومن للتعليل والإيغال: الإبعاد، يقال أوغل في الأرض، إذا أبعد فيها، حكاه ابن دريد قال: وكل داخلٍ في شيءٍ دخول مستعجل فقد أوغل فيه. وقال الأصمعيّ في شرح هذا البيت: الإيغال: سرعة الدخول في الشيء، يقال أوغل في الأمر: إذا دخل فيه بسرعة. والضمير للإبل في بيت قبله. والأواخر: جمع آخره، بوزن فاعله، وهي آخره الرحل، وهو العود الذي في آخر الرحل الذي يستند إليه الراكب، ويقال فيه مؤخر الرحل. قال ابن حجر في فتح الباري: هو بضمّ أوله ثم همزة ساكنة، وأما الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها وجوّز الفتح، وأنكر ابن قتيبة الفتح، وعكس ذلك ابن مكّيّ فقال: لا يقال مقدم ومؤخر بالكسر إلاّ في العين خاصة، وأمّا في غيرها فيقال بالفتح فقط. ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء. انتهى. وقال صاحب الصحاح: ومؤخر العين، مثل مؤمن: الذي يلي الصّدغ، ومقدمها: الذي يلي الأنف، ومؤخرة الرحل أيضاً لغة قليلة في آخره الرحل، وهي التي يستند الراكب إليها. قال يعقوب: ولا تقل مؤخرّة انتهى. والميس: بفتح الميم: شجر يتخذ منه الرحال والأقتاب، وإضافة الأواخر إليه كإضافة خاتم فضّة. والإنقاض: مصدر أنقضت الدّجاجة: إذا صوّتت - وهو بالنون والقاف والضاد المعجمة - وروي بدله: أصوات الفراريج جمع فرّوجة، وهي صغار الدّجاج. يريد أنّ رحالهم جدد وقد طال سيرهم فبعض الرحل يحكّ بعضاً فتصوّت مثل أصوات الفراريج، من شدّة السير واضطراب الرحل. وهذا البيت من قصيدة لذي الرّمّة. ومن أبيات هذه القصيدة قوله: البسيط وراكد الشّمس أجّاج نصبت له *** حواجب القوم بالمهريّة العوج إذا تنازع جالا مجهل قذفٍ *** أطراف مطردٍ بالحرّ منسوج تلوي الثّنايا بأحقيها حواشيه *** ليّ الملاء بأبواب التّفاريج أي: ربّ يوم راكد الشّمس، أي: لا تكاد شمسه تزول من طوله. وأراد بالأجّاج أنّ ذلك اليوم له توهّج واشتعال كالأجّاج بالضم، وهو اللهب. وقوله: نصبت له الخ ، أي: استقبلته بحواجب القوم. والمهريّة الإبل المنسوبة إلى مهرة. والعوج التي ضمرت فاعوجّت. وقوله: إذا تنازع الخ ، إذا ظرف لقوله نصبت، أي: ربّ يوم نصبت له حواجب القوم إذا تنازع الخ. وأخطأ من جعلها شرطيّة وجعل جوابها البيت الذي بعدها. والجالان ، بالجيم: جانبا بلدٍ مجهل. وقذف - بفتح القاف والذال -: البعيد. أراد أن الجالين تنازعا أطراف طريق مطّرد بالحرّ، أي: كأنّه ماء يجيء ويذهب يتبع بعضه بعضاً، يعني السّراب، فإنّه يطّرد كالماء ونسجه من الحرّ. وقوله: تلوي الثّنايا فعل وفاعل، ووحواشيه مفعول. والثّناي: الطّرق في الجبال. والأحقى: جمع حقو، بفتح فسكون: الوسط، وأصل الحقو الخصر وموضع شدّ الإزار، والباء بمعنى على. والحواشي: الأطراف والنّواحي. والضمير راجع إلى المطّرد المراد به السّراب. وليّ الملاء: كطيّها، وهو مصدر تشبيهي لقوله تلوي. والملاء بالضم والمدّ: الملحفة إذا كانت من لفقة واحدة. والأبواب: جمع باب. والتفاريج كما في العباب عن ابن الأعرابيّ: فتحات الأصابع، واحدها تفراج بالكسر وخروق الدّرابزين أيضاً. وأنشد هذا البيت وقال: الثنايا الطرق في الجبال. يقول: الثنايا تلوي حواشي السّراب، أي: بلغ السّراب أوساط الثّنايا. وحواشيه: أطرافه، قال شارح الديوان: الثّنايا تلوي، أي: تلفّ حواشي السّراب بأوساطها كما يلوى الملاء بالمصاريع، وقيل الدّرابزين: وما سمعت أنّ الملاء يلوى بمصاريع الأبواب انتهى. وجوابه أنّ مراد الشاعر أنّ الستائر توضع وتربط على الدّرابزين وأبوابها للتجمّل كما يفعله الأغنياء. وهذا البيت أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى: {يكور اللّيل على النّهار ويكوّر النّهار على اللّيل على تشبيه كلّ منهما باللباس الذي يكوّر ويلفّ على اللابس؛ فإنّ أحدهما لّما كان غاشياً للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إيّاه واشتماله عليه وتغطيّه به، كما شبّه ذو الرّمّة طيّ الهضاب حواشي السّراب بطيّ السّتائر بالأبواب. وقد أخطأ شارح شواهد التفسيرين في قوله: تلوي الثّنايا، جواب إذا في البيت الذي قبله. فتأمل. وترجمة ذي الرّمّة قد تقدّمت في الشواهد الثامن في أوائل الكتاب. باب خبر ما ولا المشّبهتين بليس أنشد فيه، وهو الشاهد السبعون بعد المائتين وهو من شواهد س: الوافر وما إن طبّنا جبنٌ ولكن *** منايانا ودولة آخرينا على أنّ ما الحجازيّة إذا زيد بعدها إن لا تعمل عمل ليس، كما في هذا البيت. قال الأعلم: إن كافة لما عن العمل، كما كفت ما إن عن العمل. والطّبّ بالكسر هاهنا بمعنى العلّة والسبّب، أي: لم يكن سبب قتلنا الجبن وإنّما كان ما جرى به القدر من حضور المنية، وانتقال الحال عنّا والدّولة. وقال في الصحاح: تقول ما ذلك بطبّي، أي: دهري وعادتي. وانشد هذا البيت للكميت. وهذه النسبة غير صحيحة كما يأتي بيانه قريباً. والجبن: ضدّ الشّجاعة، وهو مصدر جبن جبناً كقرب قرباً، فهو جبانٌ أي: ضعيف القلب. والجبن المأكول فيه ثلاث لغات، أجودها سكون الباء، والثانية ضمّ الباء للاتباع، والثالثة وهي أقلّها التشديد كذا في المصباح . والمناي: جمع منيّة، وهي الموت، لأنّها مقدّرة، مأخوذة من المنا بوزن العصا وهو القدر، يقال: مني له، أي: قدّر بالبناء للمفعول فيهما. روى السيّد علم الهدى المرتضى في أماليه أنّ مسلماً الخزاعيّ ثمّ المصطلقيّ قال: شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي: البسيط لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ *** إنّ المنايا بكفّي كلّ إنسان واسلك طريقك تمشي غير مختشعٍ *** حتّى يبيّن ما يمني لك الماني فكلّ ذي صاحبٍ يوماً يفارقه *** وكلّ زادٍ وإن أبقيته فان والخير والشّرّ مقرونان في قرنٍ *** بكلّ ذلك يأتيك الجديدان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أدركته لأسلم انتهى. وأنشد في الصحاح لهذا المعنى قوله: حتّى تلاقي ما يمني لك الماني وف يحواشيه: أوّله: ولا تقولن لشيءٍ سرف أفعله *** حتّى تبيّن ما يمني لك الخ قال: والبيت لأبي قلابة الهذليّ. والله أعلم. والدولة بالفتح: الغلبة في الحرب، وبالضم تكون في المال، وقيل هما بمعنىً ودالت الأيّام تدول، كدارت تدور وزناً ومعنى. وروى ابن هشام في السيرة بدله: وطعمة آخرينا . وفيه مع ذكر الجبن ما لا يخفى. وأورد ابن قتيبة في ترجمة خفاف بن ندبة من كتاب الشعراء قوله: الوافر فلم يك طبّهم جبنٌ ولكن *** رميناهم بثالثة الأثاقي قال: وهذا مّما يسأل عنه. أقول: ثالثة الأثافيّ هي الجبل، لأنّه يجعل حجران إلى جنبه فيكون الثالث؛ فيقول: كانوا شجعاناً ليس فيهم جبن ولحكن رميناهم بداهية عظيمة مثل الجبل. وقد روى أبو عبيدة البيت هكذا: فلمّا أن أبوا إلاّ علين *** رميناهم بثالثة الأثافي وهذا البيت من أبيات لفروة بن مسيك المراديّ، رواها أهل السير كابن هشام والكلاعيّ وغيرهما، وهي: فإن نغلب فغلاّبون قدم *** وإن نغلب فغير مغلّبيبنا وما إن طبّنا جبنٌ ولكن *** منايانا وطعمة آخرينا كذاك الدّهر دولته سجالٌ *** تكرّ صروفه حيناً فحينا فبينا ما نسرّ به ونرضى *** ولو لبست غضارته سنينا إذا انقلبت به كرّات دهر *** فألقيت الألى غبطوا طحينا فمن يغبط بريب الدّهر منهم *** يجد ريب الزّمان له خؤونا فلو خلد الملوك إذن خلدن *** ولو بقي الكرام إذن بقينا فأفنى ذلكم سروات قومي *** كما أفنى القرون الأوّلينا قوله: فغير مغلبينا ، المغلّب المغلوب مراراً. والسّجال بالكسر: مصدر ساجل بساجل بمعنى ناوب، قال الميدانيّ في أمثاله: المساجلة أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري وسقي، وأصله من السّجل وهي الدّلو فيها ماء قلّ وكثر. وحقيقة السّجال المغالبة بالسّقي بالسّجل، ومنه المباراة والمفاخرة والمعارضة. وتكرّ: ترجع. والصّروف: الحوادث. والغضارة بالفتح: الخير والخصب. وألفيت: وجدت. وغبطوا بالبناء للمفعول من الغبطة اسم من غبطته غبطاً من باب ضرب، إذا تمنّيت مثل ما ناله من غير أن تريد زواله عنه، لما أعجبك منه وعظم عندك وريب الدّهر: ما يحدث منه. والخؤون بفتح المعجمة: مبالغة الخائن. وقوله: فأفنى ذلكم ، الإشارة لكرّات الدّهر وحوادثه. والسّروات جمع شراة بفتح السين، وهو مفرد بمعنى الرئيس والشريف، وليس جمع سريّ كما يأتي بيانه في موضع آخر. وفروة بن مسيك صحابيّ أسلم عام الفتح، وذلك أنه لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكّة ودانت له قريش عرفت العرب أنّهم لا طاقة لهم بحربه فدخلوا في دين الله أفواجاً، فقدمت عليه وفود العرب. وممن قدم فروة بن مسيك المراديّ، قدم إلى المدينة وكان رجلاً له شرف، فأنزله سعد بن عبادة عليه، ثم غدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المجلس، فسلّم عليه ثم قال: يا رسول الله، أنا لمن ورائي من قومي. قال: اين نزلت يا فروة؟ قال: على سعد بن عبادة. قال: بارك الله على سعد بن عبادة. وكان يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتعلّم القرآن وفرائض الإسلام. وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعةٌ أصابت فيها همدان من مراد - وكان يقال لذلك اليوم يوم الرّزم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا فروة، هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرّزم؟ . قال: يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصب قومي لا يسوؤه! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما إنّ ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلاّ خيراً . وفي ذلك اليوم قال فروة هذه الأبيات. واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلّم على مراد وزبيد ومذحج، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاصي على الصدقة، وكتب فيها كتاباً لا يعدوه إلى غيره، وكان خالدٌ معه في بلاده حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. كذا في سيرة ابن هشام والكلاعيّ. وذكر الواقديّ أنّ عمر بن الخطاب رضي اله عنه استعمله أيضاً على صدقات مذحج. وذكر غيره أنه انتقل إلى الكوفة فسكنها. وأخرج ابن سعد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجاز فروة باثنتي عشرة أوقيّة، وحمله على بعير نجيب، وأعطاه حلّة من نسج عمان. وفروة: بفتح الفاء وسكون الراء بعدها واو، ومسيك: بضم الميم وفتح السين وسكون الياء ومراد: قبيلة باليمن. فإن قلت: كيف اعترف بالانهزام مع ما فيه من العار؟ قلت: هذا موقوف على سماع قصتّه فإن أصحاب المعاني لا يقدرون على فهم مثل هذا إلا بقصّته. وهي كما رواها أبو محمد الأعرابيّ في فرحة الأديب: أنّه كان صنم مرادٍ في أعلى وأنعم، وهما بطنان من مراد؛ فقالت أشرافٌ من مراد: ما بال آلهتنا لا تكون ف يعرانيننا! فأرادوا انتزاع الآلهة منهم، فخرجوا منهم فأتوا بني الحارث فاستجاروا بهم، وأرسلتن مراد إلى بني الحارث: أن أخرجوا إخوتنا من داركم، وابعثوا إلينا برجلين منكم لنقتلهما بصاحبنا - وكانت مراد تطلب بني الحارث بدم - فلمّا رأى الحصين بن يزيد بن قنان أنّ مراداً قد ألحت في طلب أصحابهم، هابهم وهلم أنه لا طاقة له بهم. وكانت مراد إذا قتل منهم رجلٌ قتلوا به رجلين، وكانوا لا يأخذون الدية إلاّ مضاعفة - فسار حصين بن يزيد، وهو رئيس بني الحارث، إلى عمير ذي مرّان، فسأله أن يركب معه إلى أرحب فيصلح بينه وبينهم، ويسألهم الحلف على مراد، لأنه كان بينه وبين أرحب دماء. فركب معه إليهم فأصلح بينهم وسألهم أن ينصروه ويحالفوه على مراد، فقال الحصين: يا معشر أرحب، إنّي لست بأسعد - بهلاك مرادٍ - منكم، وكانت أرحب تغاور مراداً قبل ذلك، فحالفته أرحب وغدوا ؛ فسار حصين بن يزيد ببني الحارث، وسارت البادية من همدان وعليهم يزيد بن ثمامة الأرحبي الأصمّ. وأقبلت مراد كأنّهم حرّة سوداء يدفّون دفيفاً ، وعليهم الحارث بن ظبيان المثلّم، وكان يكنى أبا قيس الأنعمي. فاقتتلوا بموضع يقال له الرزم إلىجنب أياء قتالاً شديداً، فتضعضعت بنو الحارث، وأقبل عليهم الحصين، فقال: يا بني الحارث، والله لئن لم تضربوا وجوه مرادٍ بالسّيوف حتّى يخلوا لكم العرصة لأتركنكم تنفلون في العرب! ثم أقبل على بادية همدان فقال: يا معشر همدان الصبّر الصبر، لا تقول مراد إنا لجأنا إلى عدد همدان وعزّها فلم يغنوا عنّا! فاقتتل القوم قتالاً شديداً، فقتل الحصين، وصبر الفريقان جميعاً، فتهيأت بنو الحارث للفرار وتضعضعت أرحب - وقد كانوا أحضروا النساء معهم فجعلوهن خلف ظهورهم - فلمّا رأت أرحب النساء قد بدت خلاخيلها للفرار؛ عادوا للقتال وقالوا: لا نفرّ حتّى يفرّ يغوث! وصبروا للقوم، وصبرت بنو الحارث معهم، فانهزمت مراد، واستذرع القتل فيهم، وسبوا نسءً من نسائهم، فأدرك الإسلام وهن في دور همدان. وقتل يومئذٍ المثلّم رئيس مراد، وعزيز، وقيس، ونمران، وسميّ، المراديون. وقتل في ذلك اليوم الحصين بن يزيد الحارثي. قال في ذلك يزيد بن ثمامة الأرحبي: الطويل لقد علم الحيّ المصبّح أنّني *** بجنب أياء غير نكس مواكل تركت عزيزاً تحجل الطّير حوله *** وغشيّت قيساً حدّ أبيض قاصل ونمران قد قضيت منه حزازةً *** على حنقٍ يوم التفاف القبائل عكبٌّ شفيت النّفس منه وحارثٌ *** بنافذةٍ في صدره ذي عوامل وأردت سميّاً في المكرّ رماحن *** وصادف موتاً عاجلاً غير آجل وبهذه القصة يعرف معنى قوله: فإن نهزم فهزّامون قدما البيت وذلك أن مراداً لم تدر عليهم دائرة قبل يوم الرّزم. وأنشد بعده: وهو البسيط بني غدانة ما إن أنتم ذهب *** ولا صريفاً ولكن أنتم الخزف على أنه قد جاءت إن بعد ما غير كافّة. وقد بيّنه الشارح المحقّق. قال ابن هشام في شرح شواهده: النصب رواية يعقوب بن السكّيت، والرفع رواية الجمهور على أنّ إن كافّة لما عن العمل. قال: وزعم الكوفيّون على رواية النصب أنّ إن نافية مؤكدة لا كافّة. ويلزمهم أن لا يبطل عملها كما لا يبطل عملها إذا تكرّرت على الصّحيح، بدليل قوله: الرجز لا ينسك الأسى تأسّياً فم *** ما من حمامٍ أحدٌ معتصماً ومعنى هذا البيت: لا ينسك ما أصابك من الحزن على من فقدته أن تتأسّى بمن سبقك مّمن فقد أحبابه، فليس أحدٌ ممنوعاً من الموت. ومن زعم أنّ ما إذا تكرّرت يبطل عملها جعل منفيّ ما الأولى محذوفاً، أي: فما ينفعك الحزن، وهو تكلّف. واستشهد شرّاح الألفيّة بهذا البيت - على رواية رفعه - على أنّ إن فيه كافّة. وبني غدانة منادى بتقدير يا؛ وغدانة بضم الغين المعجمة: حيٌّ من يربوع من بني تميم. والصّريف بفتح الصاد والراء المهملتين، قال ابن السّكّيت: هو الفضّة. وأنشد هذا البيت. والخزف بفتح المعجمتين قال ثعلب في أماليه: هو ما عمل من طين، وشوي بالنّار حتّى يكون فخاراً. وأنشد هذا البيت. ولم أر من نسب هذا البيت لقائله مع كثرة الاستشهاد به في كتب النحو واللّغة، والله أعلم. وأنشد بعده: وهو إلاّ أواريّ ما إن لا أبينها على أنّ الفرّاء أنشده بالجمع بين ثلاثة أحرف نافية، والرواية: لأياً ما أبينها . هذه الرواية أنشدها الفرّاء في تفسيره المسمّى بمعاني القرآن في أواخر سورة يونس عند قوله تعالى: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس . وهذا نص كلامه: في قراءة أبيّ فهلاّ لأنّ معناها أنّهم لم يؤمنوا، ثم استثنى قوم يونس بالنصب على الانقطاع مما قبله، ألا ترى أنّ ما بعد إلا؟ّ في الجحد يتبع ما قبلها فتقول: ما قام أحدٌ إلاّ أبوك، لأنّ الأب من الأحد: فإذا قلت: ما فيها أحد إلاّ كلباً وحماراً، نصبت لأنّها منقطعةٌ مما قبل إلاّ، إذ لم يكن من شكله ولا جنسه: كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء. ولو كان الاستثناء هاهنا وقع على طائفة منهم لكان رفعاً. وقد يجوز الرفع كما أنّ المختلف ف الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلاّ ما قبل إلاّ كما قال الشاعر: الرجز وبلدةٍ ليس بها أنيس *** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس والنّصب في قوله تعالى: {ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظّنّ لا ينسب إلى العلم. وأنشدونا بيت النابغة بالنصب: وما بالربع من أحد إلاّ أواريّ ما إن أبيّنها قال الفرّاء: جمع هذا البيت بين ثلاثة أحرفٍ من حروف الجحد: لا، وإن، وما. والنصب في هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز، والاتباع من كلام تميم. انتهى كلام الفرّاء. وأراد اجتماعها على سبيل التوكيد، لا أنّ الثاني نافٍ للنفي فيثبت، والثالث نافٍ للثاني فينفى.وقد أورد الفرّاء في تفسيره الرواية التي ذكرها الشارح في أواخر سورة النساء عند قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ قال: من في موضع خفضٍ ونصبٍ: الخفض إلاّ فيمن أمر بصدقة. والنّجوى هاهنا رجال كما قال تعالى: {وإذ هم نجوى ومن جعل النّجوى فعلاً كما قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثةٍ فمن حينئذ في موضع رفع. وأما النّصب فأن تجعل النّجوى فعلاً فإذا استثنيت الشيء من خلافه كان الوجه النصب، كما قال الشاعر: وما بالربّع من أحد إلاّ أواريّ لأياً ما أبنّيه *** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وقد تكون في موضع رفع وإن ردّت على خلافها، قال الشاعر: وبلدةٍ ليس بها أنيس *** إلاّ! اليعافير وإلاّ العيس انتهى. وإنّما سقنا كلامه في الموضعين برمّته للتبرّك، وليعلم طرز تفسيره، فإنه لقدمه قلّما يطلع عليه أحد. وقد أورده الزّجّاجيّ بهذه الرواية أيضاً في تفسيره المعروف بمعاني القرآن في سورة البقرة عند قوله تعالى: {إنكم ظلمتم أنفسكم ياتّخاذكم العجل قال: الظّلم في اللّغة: وضع الشيء في غير موضعه، العرب تقول: من أشبه أباه فما ظلم معناه لم يقع الشبه غير موقعه؛ ويقال: ظلم فلان سقاءه إذا شرب وسقى منه قبل إدراكه، وأراض مظلومة، إذا حفر فيها ولم يكن حفر فيها قبل، وإذا جاء المطر يقربها ويتخطّاها. قال النابغة: إلاّ أورايّ لأياً ما أبينّه *** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وأورده الزّجّاج أيضاً عند قوله تعالى: {ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم واخرجوا من دياركم . قال: وأما رفع إلاّ قليلٌ منهم فعلى البدل من الواو، والمعنى ما فعله إلاّ قليل. والنصب جائز في غير القرآن على معنى ما فعلوه، أستثني قليلاً منهم. وعلى ما فسّرناه في نصب الاستثناء فإن كان في النفي نوعان مختلفان فالاختيار النصب، والبدل جائز، تقول: ما بالدار أحدٌ إلاّ حماراً. قال النابغة الذّبيانيّ: البسيط وقفت فيها أصيلالا أسائله *** عيّت جواباً وما بالربّع من أحد إلاّ أورايّ لأياً ما أبينّه *** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد فقال: ما بالربّع من أحد، أي: ما بالربع أحدٌ إلاّ أواريّ. لأنّ الأواريّ ليست من الناس. وقد يجوز الرفع على البدل وإن كان من غير جنس الأوّل كما قال الشاعر: وبلدةٍ ليس بها أنيس *** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس فجعل اليعافير والعيس بدلاً من الأنيس. وجائز أن يكون جعل أنيس ذلك البلد اليعافير والعيس. انتهى كلامه. وقد رويا كلاهما إلاّ الأواريّ معرّفاً ومنكراً. قال أبو البقاء في شرح الإيضاح حكى عبد القاهر عن شيخه عبد الوارث ابن أخت أبي عليّ أنه قال: الجيّد أن يروى إلاّ الأواريّ بالألف واللام، ليكون الفتح خالصاً. وإذا نكّر جاز أن يكون بدلاً من أحد، ولكن لم يكسر لأنه غير منصرف انتهى. وقوله: وإذا نكّر جاز أن يكون بدلاً من أحد هذا الجواز ممنوع عند البصريين. وقد بينّه ابن السيّد في شرح الجمل قال: ويروى عن الكسائيّ أنّه أجاز خفض الأواريّ على البدل من لفظ أحد. وهذا عند البصرييّن خطأ؛ لأنّه يصير التقدير: وما بالربّع إلاّ من أورايّ؛ فتكون من زائدة في الواجب. ومن لا تزاد إلاّ في النفي. ولو أنّها من التي تدخل على الموجب والمنفيّ لجاز ذلك كقولك: ما أخذت من أحد إلاّ زيدٍ درهماً. وهذا البيت من قصيدةٍ للنّابغة الذّبيانيّ مدح بها النّعمان بن المنذر، واعتذر إليه مما بلغه عنه. وهذا مطلع القصيدة: يا دار ميّة بالعلياء فالسند *** أقوت وطال عليها سالف الأبد وقفت فيها أصيلاناً أسائله *** عيّت جواباً وما بالربّع من أحد إلاّ أورايّ لأياً ما أبينّه *** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد وقد تقدّم شرح أبيات كثيرة منها في عدّة مواضع. وقد أورد سيبويه هذه الأبيات الثلاثة، قال الأعلم: الشاهد في قوله: إلاّ الأواريّ بالنصب على الاستثناء المنقطع، لأنّها من غير جنس الأحدين. والرفع جائز على البدل من الموضع. والتقدير: وما بالربّع أحد إلاّ الأواريّ. على أن يجعل من جنس الأحدين اتساعاً ومجازاً انتهى. قال ابن السّيد: الرفع على البدل من موضع من أحد. لأنّ من زائدة وأحد مرفوعٌ في المعنى وإن كان مخفوضاً في اللفظ؛ وليست ببدل من موضع الجارّ وحده. ولا من موضع المجرور وحده، ولكنّها بدل من موضعهما معاً. والبيت الأوّل يأتي شرحه إن شاء الله في الفاء من حروف العطف. وقوله: وقفت فيها البيتين، وصف أن دار ميّة خلت من أهلها، فسألها توجّعاً تذكراً لمن حلّ بها فلم تجبه؛ إذ لا مجيب بها ولا أحد فيها إلاّ الأواريّ؛ وهي محابس الخيل، واحدها آريّ؛ وهو من تأرّيت بالمكان: إذا تحسّبت به. واللأي: البطء. والمعنى: تبيّنتها بعد بطء لتغيّرها. والنّؤي: حاجز حول الخباء يدفع عنه الماء ويبعده؛ وهو من نأيت إذا بعددت. وشبّهه في استدارته بالحوض. والمظلومة أرض حفر فيها الحوض لغير إقامة لأنّها في فلاة فظلمت بذلك، وغنّما أراد أنّ حفر الحوض لم يعمق فذلك أشبه للنّؤي، ولذلك جعلها جلداً، وهي الصّلبة. هذا ما قاله الأعلم إجمالاً، وأما تفصيلاً، فقوله: أصيلاناً منصوب على الظرف وفيه ثلاثة أقوال: الأوّل أنّه مصغّر أصيل على غير قياس كأنّه تصغير أصلان، قاله ابن السيّد. الثاني: أنّه تصغير أصلان وهو جمع أصيل كرغفان جمع رغيف. وردّه أن جمع الكثرة لا يصغّر إلاّ بردّه إلى المفرد. الثالث: أنّه مصغّر اصلان أيضاً، لكن أصلاناً اسمٌ مفرد بمعنى الأصيل مثل التّكلان والغفران. حكى هذين القولين شارح الدّيوان واللّخميّ. وروى أيض: أصيلالا بإبدال النون لاماً. والأصيل: الوقت بعد العصر إلأى المغرب. وروى أيضاً: وقفت فيها أصيلا كي أسائلها وروى أيضاً: وقفت فيها طويلاً كي أسائلها وهو إمّا بتقدير وقوفاً طويلاً وإمّا بتقدير وقتاً طويلاً. وقوله: أسائلها ، الجملة حال: إمّا من تاء وقفت فهي جارية على من هي له، وإمّا من ضمير فيها فتكون لغير من هي له. وإنّما جاز الوجهان لأنّ في أسائلها ضميراً راجعاً إلى السائل وضميراً راجعاً للمسؤول، واستتر الضمير مع جريان الحال على غير من هي له لأنّ الفعل يستتر فيه ضمير الأجنبيّ وغيره، لقوّته في الإضمار. فعلى الأوّل تقديره مسائلها، وعلى الثاني مسائلها أنا، بإظهار الضمير. ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضميرين على حدّ لقيته راكبين، لاختلاف العاملين، ولما في ذلك من التناقص. كذا قال ابن السيد. وقوله: عيّت ، استئناف بيانيٌّ؛ وقيل حال، بتقدير قد، من ضمير الدار في أسائلها. يقال: عييت بالأمر بالكسر: إذا لم تعرف وجهه، وروى أيض: أعيت بالألف، أي: عجزت. وجواب: إمّا تمييز محوّل عن الفاعل، أي: عيّ جوابها، ثم اسند الفعل إلى ضمير الدار. وهذا كقوله: وقفت برسميها فعيّ جوابها وإمّا منصوب بنزع الخافض، أي: عيّت أن تجيب جواباً. وفيه نظر ظاهر. وقوله: وما بالربّع الخ ، قال ابن السيّد جعلتها لا محلّ لها من الإعراب، وإن شئت كانت حالاً من ضمير عيّت المستتر، ومن ضمير أسائلها، ويلزم على هذا تقدير ضمير صاحب الحال، أي: وما بالربّع منها. وعند الكوفيّين أل في الرّبع معاقبة للضمير، أي: وما بربعها انتهى. والربّع ، بالفتح: محلّة القوم ومنزلهم أينما كان. والمربع، كجعفر: منزلهم في الرّبيع خاصة. ولم يصب اللّخمي في قوله: الربع المنزل في الرّبيع خاصّة، ثم كثر في كلامهم حتّى قيل لكل منزل ربع، وقوله: من أحد، من زائدة، وأحد فاعل الظرف. وقوله: إلاّ الأورايّ لأياً ما أبيّنها الأواريّ يقال لها الأواخيّ أيضاً، وهما آريّةً وآخيّة بمدّ الهمزة وتشديد الياء فيهما، وهي التي تحبس بها الخيل من وتد وحبل. واللأي، قال ابن السيّد: هو مصدر لم يستعمل منه فعل إلاّ بالزيادة، يقال: التأى ولا يقال: لأى. والمظلومة فيها أقوال: قيل: هي الأرض حفر فيها ولم يكن بها حفرٌ قبل ذلك، وقيل: هي التي أتاها سيلٌ من أرض أخرى، وقيل: هي أرض مطرت في غير وقتها وشعر النابغة يقتضي الأوّل. وقال ابن السّكّيت: إنّما قيل بالمظلومة، لإنّهم مرّوا في برّيّة فحفروا فيها حوضاً وليس بموضع حفر، فجعلوا الشيء في غير موضعه. والجلد ، بفتح الجيم واللام: الأرض الصّلبة من غير حجارة، قال ابن السيّد: وخصّها بذلك لأنّها إذا كانت صلبة تعذر الحفر فيها فلم يعمق الحفر فيها، فهو أولى لتشبيه النؤي به. وفي رواية: الأواريّ والنّؤي، بالرفع على لغة تميم، بالإبدال من موضع من أحد؛ وذلك على ثلاثة أوجه: الأوّل: أنّه أراد ما بالربّع إلاّ الأواريّ، فذكر من أحدٍ تأكيداً، وكأنّه في التقدير: ما بالربّع شيء أحدٌ، ولا غيره إلاّ الأواريّ. والوجه الثاني: أنّه جعل الأواريّ من جنس أحد على المجاز، كما تقول تحيّته السّيف، وما أنت إلاّ أكلٌ وشرب، فجعل التّحية السيف، وجعله الأكل والشرب مجازاً. والوجه الثالث: أنّه خلط من يعقل بما لا يعقل، ثم غلّب من يعقل فقال: وما بالربّع من أحد، وهو يريد من يعقل وما لا يعقل، ثم أبدل الأواريّ من لفظٍ اشتمل عليه وعلى غيره. والقولان الأوّلان لسيبويه، والثالث للمازنيّ. وقوله: كالحوض ، قال ابن السيّد: يحتمل وجهين: إنّ جعلت النّؤي مرفوعاً بالابتداء فالظرف خبره، وإن جعلته مرفوعاً بالعطف على الأواريّ فالظرف حال من النّؤي - كم نصب النّؤي بالعطف على الأواريّ - وعامل الحال إذا نصب النؤي معنى الاستثناء، وإذا رفع فمعنى الاستقرار في قوله بالربّع. وقوله: بالمظلومة ، حال من الحوض والعامل ما في الكاف من معنى التشبيه. فإن قلت: أيّ ما هي في قوله لأيا ما أبينها؟ قلت: هي كالتي في قوله تعالى: {إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةٌ قال صاحب الكشّاف: وما هذه إبهاميّة، وهي التي إذا اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً، كقولك: أعطني كتاباً ما - تريد أيّ كتاب كان - وصلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم انتهى. فالمعنى أنّ هذا الربع لخلوه من الأاهل قد سفت الرّيح عليه التراب حتّى خفيت الأواريّ فيه، فلا تظهر للناظر بادئ بدء، وإنّما يستبينها ببطء بعد التأمّل. فإن قلت: رواية الفراء تناقص رواية الجمهور؛ فإنّ روايته ذريحة في نفي استبانة الأواريّ، وحينئذ لا معنى لستثناء الأواريّذ. قلت: هي بتقدير ما أبينها بسرعةٍ بل ببطء، فتطابق رواية الجمهور ويصحّ الاستثناء. فإن قلت: هل يصحّ أن يكون ما في رواية الجمهور نافية؟ قلت: لا، لأنّ المعنى خينئذ أنّ الأواريّ لم أتبينّها ببطء بل بسرعة. وهذا خلاف مراد الشاعر، فتأمّل. وفي ذكر الأواريّ دلالة على أنّ أهل الرّبع ذوو عزّ وشجاعة لا قتنائهم الخيل. والله أعلم. وترجمة النّابغة الذّبيانيّ قد تقدّمت في الشاهد الرابع بعد المائة. وأنشد بعده: وهو
|